فصل: (فرع: كري النهر على المنتفعين)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: كري النهر على المنتفعين]

قال ابن الصباغ: إذا كان النهر مشتركًا بين عشرة، فأرادوا أن يكروه، فإن على الجماعة أن يشتركوا في الكري في أوله، فإذا جاوزوا الأول.. كان على الباقين دونه، فإذا جاوزوا الثاني.. كان على الباقين دونه.. وعلى هذا. وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: يشتركون في جميعه؛ لأن الأول ينتفع بجميعه؛ لأنه ينتفع بأوله بسقي أرضه، وبالباقي بصب مائه، فكان الكري على الكل بقدر شربه وأرضه.
ودليلنا: أنه ينتفع بالماء الذي في موضع شربه، فأما ما بعده: فإنه يختص بالانتفاع به من دونه، فلا يشاركهم فيه. والله أعلم

.[كتاب اللقطة]

اللقطة ـ بسكون القاف ـ: هو المال الملقوط.
وأما اللقطة ـ بفتح القاف ـ: فاختلف أهل اللغة فيها:
فقال الأصمعي وابن الأعرابي والفراء: هو اسم المال الملقوط.
وقال الخليل: هو اسم الرجل الملتقط؛ لأن ما جاء على وزن فعلة.. فهو اسم الفاعل، كقولهم: همزة ولمزة وضحكة.
إذا ثبت هذا: فإذا وجد الحر الرشيد لقطة.. لم تخل: إما أن يجدها في موضع مملوك، أو في موضع مباح:
فإن وجدها في موضع مملوك.. فهي لمالك ذلك الموضع؛ لأن يده ثابتة على الموضع وعلى ما فيه، إلا إن قال مالك الموضع: ليست بملك لي.
وإن وجدها في موضع مباح.. فلا يخلو: إما أن يكون حيوانًا، أو غير حيوان، فإن كان غير حيوان.. نظرت:
فإن كانت يسيرة بحيث يعلم أن صاحبها لو علم أنها ضاعت منه لم يطلبها، كزبيبة أو تمرة وما أشبههما.. لم يجب تعريفها، وله أن ينتفع بها في الحال؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة مطروحة في الطريق فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة.. لأكلتها»
وروى جابر قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به».
وروي: (أن عمر بن الخطاب رأى رجلًا يعرف زبيبة، فقال: إن من الورع ما يمقته الله).
وإن كانت اللقطة كثيرة بحيث يطلبها من ضاعت منه، كالذهب والفضة والثياب والجواهر وغيرها، فإن وجدها في غير الحرم.. جاز التقاطها للتملك؛ لما روى زيد بن خالد الجهني، قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فشأنك بها». وروي: «فاستنفع بها».
وسئل عن ضالة الغنم، فقال: «خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب».
وسئل عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه أو قال: احمر وجهه، فقال: «ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، دعها حتى يجيء صاحبها فيأخذها»
«وروى أبو ثعلبة، قال: قلت يا رسول الله: أفتني في اللقطة فقال: ما وجدته في طريق ميتاء،، أو قرية عامرة.. فعرفها سنة، فإن وجدت صاحبها، وإلا.. فهي لك. وما وجدته في طريق غير ميتاء، أو قرية غير عامرة.. ففيها وفي الركاز الخمس».
قال أبو عبيد ["في غريب الحديث" (2/204)] و(الميتاء): الطريق العامر المسلوك، ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي ابنه إبراهيم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فبكى عليه وقال:
«لولا أنه وعد حق، وقول صدق، وطريق ميتاء.. لحزنا عليك يا إبراهيم أشد من حزننا»
قال: وبعضهم يقول: مأتي عليه الناس. وكلاهما جائز.
ويجوز أن يلتقطها للحفظ على صحابها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه».
وإن وجدها في الحرم.. لم يجز له التقاطها للتملك. ومن الناس من قال: يجوز له التقاطها للتملك. وبه قال بعض أصحابنا، وحكاه ابن الصباغ عن مالك وأبي حنيفة؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مكة: «لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد».
و(المنشد): المعرف، يقال: أنشدت الضالة إنشادا، فأنا منشد: إذا عرفتها. فأما الطالب لها: فيقال له: الناشد.
يقال من الطلب: نشدت الضالة، أنشدها نشدانا: إذا طلبتها، فأنا ناشد.
ومنه ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال: «أيها الناشد غيرك الواجد».
وإذا كان المنشد هو المعرف.. كان معناه أنها لا تحل إلا للمعرف لها إذا لم يجد صاحبها.
والمذهب الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] وما وصفه الله تعالى بالأمن لا يجوز أن يضيع فيه مال الغير.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل لقطة الحاج».
وعموم الخبر يقتضي: لا تحل لقطة الحاج بمكة، ولا بغيرها، فأجمع المسلمون على أنها تحل بغير مكة، وبقي الحرم على ظاهر الخبر.
وأما الخبر الأول: فأراد به أنه لا يحل للمنشد منها إلا إنشادها، فأما للانتفاع بها.. فلا تحل له، إذا لو حل له تملكها لما كان لمكة مزية على غيرها من البلاد. والخبر ورد في بيان فضيلة مكة على غيرها.
وقيل: أراد بقوله: (إلا لمنشد) أي: لا تحل إلا لصاحبها الذي يطلبها، وسماه منشدا. وهذا حسن في الفقه، ولكن لا يجوز في اللغة أن يسمى الطالب منشدا، وإنما هو ناشد.
ولأن مكة بلد صغير، وينتابها الناس من الآفاق، فإذا عرفنا اللقطة فيها.. استشاع التعريف فيها، فإن كانت لأحد من أهلها.. تعرفها في الحال وأخذها.
وإن كانت لمن ينتابها من الناس من غيرها وقد راح إلى أهله.. فلا يخلو أن يخرج من بلده غيره، من صديق له أو قريب، فيمكنه أن يتعرفها له، فكان الحظ في تركها وحفظها إلى أن يجيء صاحبها؛ لأن الظاهر أنها تصل إليه وليس كذلك سائر البلاد؛ لأن البلد قد يكون كبيرا لا يستشيع التعريف فيه إن كانت لأهلها، وربما كانت لغريب
دخل ذلك البلد، وربما لا يعود إليه، فالظاهر أنها لا تعود إلى مالكها، فلذلك جاز تملكها.
إذا ثبت هذا: فإن الملتقط يلزمه المقام لتعريفها، فإن لم يمكنه المقام.. دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح؛ لأن ذلك مصلحة.

.[فرع: رؤية اللقطة في طريق مسلوك]

وإن وجد شيئا من ضرب الجاهلية في طريق مسلوك، أو قرية عامرة.. فهو لقطة. وإن وجده في موات، أو في قرية خربة كانت عامرة للجاهلية.. فهو ركاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كان منها في طريق ميتاء.. فعرفها حولا كاملا، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي لك. وما كان منها في خراب.. ففيها وفي الركاز الخمس» و(الركاز): المال المدفون.
هكذا: إذا احتملت الأمرين، بأن تكون آنية، أو دراهم لا نقش عليها.. قال الشيخ أبو حامد: فهو ركاز أيضا.

.[فرع: اللقطة ذات الشأن]

وإن كانت اللقطة يسيرة، إلا أنها تتبعها النفس، ويطلبها صاحبها إذا علم أنها ضاعت منه.. فهل يجب تعريفها سنة أو ثلاثة أيام؛ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب تعريفها سنة، بل يكفي ثلاثة أيام؛ لأن ذلك يشق.
والثاني: وهو المذهب: - أنه يجب تعريف الكثير واليسير سنة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عرفها سنة» ولم يفرق.
إذا ثبت هذا: وقلنا لا يجب تعريف اليسير سنة.. ففي قدره ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الدينار فما دونه: يسير، وما زاد عليه كثير؛ لما روي: «أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجد دينارًا، فذكره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره بأكله».
والثاني: أن اليسير درهم فما دونه، وما زاد عليه كثير.
والثالث: أن ما دون ربع دينار يسير، وربع دينار فما زاد عليه كثير؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما كانت يد السارق تقطع في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيء التافه». ومعلوم أنها كانت تقطع بربع دينار.

.[مسألة: استحباب اللقطة للأمين]

إذا وجد اللقطة وكان أمينا.. قال الشافعي في " المختصر " [3/125] (لا أحب لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينا عليها).
وقال في موضع آخر: (لا يحل له ترك اللقطة إذا كان أمينا عليها).
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم قال فيه قولان:
أحدهما: يستحب له أخذها، ولا يجب عليه، لأن ذلك أمانة، فلم يجب عليه أخذها، كقبول الوديعة.
والثاني: يجب عليه أخذها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، ولقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وإذا كان وليا عليه.. وجب عليه حفظ ماله.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه». ولو خاف على دمه.. لوجب عليه حفظه، فكذلك إذا خاف على ماله.
وقال أبو العباس، وأبو إسحاق وغيرهما: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال (يستحب له أخذها، ولا يجب عليه) أراد به: إذا وجدها في بلد، أو قرية، أو محلة، يعلم أمانة أهلها؛ لأن ترك أخذها لا يكون تغريرا بها؛ لأن غيره يقوم مقامه في حفظها، فجرى مجرى الصلاة على الجنازة، ودفن الميت إذا كان هناك من يقوم بها غيره.
والموضع الذي قال (يجب عليه أخذها) أراد: إذا وجدها في بلد، أو قرية، أو محلة يعلم أن أهلها غير ثقات، أو وجدها في مسلك يسلكه أخلاط الناس؛ لأن في تركها تغريرا بها.
فإن تركها الأمين ولم يأخذها فتلفت.. لم يجب عليه ضمانها، سواء قلنا: يجب عليه أخذها، أو يستحب له أخذها؛ لأن الضمان إنما يكون باليد أو الإتلاف، ولم يوجد منه أحدهما، وإنما يفيد الوجوب الإثم لا غير.
فأما إذا كان الواجد لها غير أمين: فلا يستحب له أخذها؛ لأن المقصود بأخذها حفظها على صاحبها، والتغرير يحصل بأخذه لها، فإذا تركها.. فربما وجدها من يحفظها على صاحبها.
إذا ثبت هذا: فقد حكي عن مالك وأحمد: (أنهما كرها الالتقاط للأمين أيضا).
وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤوي الضالة إلا ضال».
ودليلنا: حديث زيد بن خالد الجهني، ولأنه أخذ أمانة فلم تكره، كالوديعة. وأما الخبر: فمحمول على كبار الحيوان إذا وجده في البرية.

.[فرع: تضمن اللقطة بالحفظ مدة التعريف]

إذا أخذ لقطة بنية التعريف.. لم يلزمه ضمانها بالأخذ، ولكن يلزمه حفظها مدة التعريف، فإن ردها إلى الموضع الذي وجدها فيه.. لم يبرأ بذلك.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا وفاق بيننا وبين أبي حنيفة، بخلاف الوديعة، فإنه خالفنا فيها.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال في اللقطة أيضا: (إنه يبرأ بذلك) كما قال في الوديعة.
ودليلنا: أنه لما أخذها.. فقد التزم حفظها فإذا تركها في الموضع الذي وجدها فيه.. فقد ضيعها، فلزمه ضمانها، كما لو رماها إلى موضع آخر.
وإن أخذ اللقطة من موضعها بنية تملكها في الحال.. ضمنها بالأخذ، ولا يبرأ بالتعريف. وإن عرفها بعد ذلك. فهل يملكها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 358]:
أحدهما: لا يملكها، لأنها دخلت في ضمانه، فهو كما لو أخذها غصبا.
والثاني: يملكها، وهو الأصح؛ لظاهر الأخبار، ولم يفرق، ولأن سبب التملك هو التعريف، وقد وجد.

.[مسألة: وجد اللقطة رجلان]

وإذا وجد رجلان لقطة، فأخذاها معا.. كانت بينهما بعد التعريف، كما إذا أثبتا صيدا، وإن رأياها معا فبادر أحدهما وأخذها.. كانت لمن أخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ دون الرؤية، كما قلنا في الاصطياد.
فإن رآها أحدهما، فقال لصاحبه: أعطنيها، فأخذها الآخر؛ فإن أخذها لنفسه.. كان أحق بها؛ لأن استحقاقها بالأخذ دون الرؤية، وإن أخذها لصاحبه الذي أمره بأخذها، فهل تكون للآمر؟ فيه وجهان، بناء على القولين في التوكيل في الاصطياد والاحتشاش.
وإن أخذ رجل اللقطة فضاعت منه، ووجدها آخر.. فإن الثاني يعرفها، فإن جاء مالكها، وأقام البينة عليها.. وجب عليه ردها إليه؛ لأنه هو المالك لها. وإن لم يجد مالكها ولكن جاء الملتقط الأول، وأقام البينة على التقاطه لها.. وجب على الثاني ردها إليه؛ لأن الأول قد ثبت له عليها حق بالالتقاط، فوجب ردها إليه كما لو تحجر مواتا.

.[مسألة: ما تعرف به اللقطة]

قال الشافعي: (ويعرف عفاصها ووكاءها وعددها ووزنها وحليتها ويكتبها ويشهد عليها).
وجملة ذلك: أنه إذا وجد لقطة.. فيحتاج أن يعرف منها أشياء:
أحدها: (العفاص): وهو الوعاء الذي يكون فيه اللقطة: كالكيس الذي يكون فيه الدنانير أو الدراهم، واللفافة التي تكون فوق الثوب، والصندوق الذي يكون فيه المتاع، يقال أعفصت الإناء: إذا أصلحت له العفاص، وعفصته: إذا شددته عليه. وأما (الصمام): فهو ما يسد به رأس المحبرة والقارورة.
والعفاص والوعاء شيء واحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حديث زيد بن خالد: «اعرف عفاصها». وفي حديث أبي بن كعب قال: «اعرف وعاءها» فدل أن المعنى واحد.
الثاني: أن يعرف (وكاءها): وهو الخيط الذي يشد به المال في الوعاء. ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العينان وكاء السه».
الثالث: أن يعرف (جنسها)، بأن يعرف أنها دنانير أو دراهم أو ثياب أو طعام.
الرابع: أن يعرف (قدرها)، بأن يعرف عددها إن كانت معدودة، أو وزنها إن كانت موزونة، وكيلها إن كانت مكيلة، وذرعها إن كانت مذروعة.
الخامس: أن يعرف (حليتها): وهو صفتها، فإن كانت من النقود.. عرف من أي السكك هي. وإن كانت ثيابا.. عرف أنها قطن أو كتان أو حرير، وأنها دقيقة أو غليظة. وإن كانت حيوانا.. عرف نوعه وحليته.
وإنما قلنا ذلك؛ لما روى زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال اعرف عفاصها ووكاءها» وفي حديث أبي بن كعب «اعرف عددها، ووعاءها، ووكاءها» فنص على هذه الأشياء، وقسنا غيرها عليها؛ لأنها في معناها.
واختلف أصحابنا لأي معنى أمر بتعرف هذه الأشياء؟
فقال أبو إسحاق: يحتمل ثلاثة معان:
أحدها: أن المقصود ما في الوعاء، فنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معرفة الوعاء والوكاء وحفظهما؛ لينبه على معرفة ما في الوعاء وحفظه.
والثاني: أن الوعاء والوكاء لا خطر له، والعادة أن الإنسان إذا وجد شيئا ربما يرمي بالوعاء والوكاء، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفظهما؛ لئلا يرمى بهما.
والثالث: أن الملتقط ربما خلط اللقطة ورفعها في جملة أمواله، فأمر بمعرفة الوعاء والوكاء؛ لكي تتميز عن أمواله ولا تختلط بها.
ومن أصحابنا من قال: إنما أمره بمعرفة ذلك؛ لأن صاحبها ربما جاء ووصفها بذلك، فإن غلب على ظنه صدقه.. جاز له الدفع إليه بذلك.
ومن أصحابنا من قال: إنما أمره بمعرفة ذلك؛ لأنه إذا عرف ذلك أمكنه الإشهاد عليها، والتعريف لها لتكون معلومة بما ذكرناه.
قال الشافعي: (ويكتبها ويشهد عليها).
قال أصحابنا: يكتبها؛ لئلا ينسى ما عرفه، وذلك مستحب غير واجب.
وأما الإشهاد عليها: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يستحب ولا يجب، فإن تركه.. لم يجب عليه ضمانها. وبه قال مالك؛ لحديث زيد بن خالد، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمره بالإشهاد عليها، ولأنه آخذ أمانة، فلا يجب الإشهاد عليها، كالوديعة.
والثاني: يجب الإشهاد عليها، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن لم يشهد عليها.. ضمنها)؛ لما روى عياض بن حمار: أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد لقطة.. فليشهد ذا عدل- أو ذوي عدل - ولا يكتم ولا يغيب. فإن وجد صاحبها.. فليردها عليه، وإلا.. فهو مال الله عز وجل يؤتيه من يشاء» ولأنه إذا لم يشهد عليها.. كان الظاهر أنه أخذها لنفسه، ولأن القصد من أخذ اللقطة حفظها على صاحبها، والحفظ إنما يتم بالإشهاد؛ لأنه ربما غاب أو مات، ويأخذها ورثته.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 362] إذا قلنا: يجب الإشهاد.. فإنه يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم الشهود بالعفاص والوكاء وغير ذلك.

.[مسألة: نية حفظ اللقطة]

إذا أخذ اللقطة بنية أن يحفظها على صاحبها أبدا.. فهل يلزمه تعريفها؟ فيه وجهان، حاكهما الطبري:
أحدهما: لا يلزمه، وهو المشهور؛ لأن التعريف يراد للتملك وإباحة أكلها، ولا نية له في ذلك.
والثاني: يلزمه التعريف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفها سنة»، ولأن صاحبها لا يعلم بها إلا بالتعريف. وإن أراد أن يتملكها.. عرفها.
والكلام في التعريف في سبعة مواضع: في وجوبه، وقدر مدته، ووقته، وقدر التعريف، ومكانه، وكيفيته، ومن يتولاه.
فأما الوجوب: فالدليل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم عرفها سنة». وهذا أمر، والأمر
يقتضي الوجوب، ولأن سبب التملك هو التعريف، فمتى أراد التملك.. لزمه الإتيان بالسبب.
وأما قدر مدته: فسنة؛ للخبر، ولأن من ضاع منه شيء.. ربما لم يتمكن من طلبه في الحال لشغل، أو لأنه لم يعلم إلا بعد زمن، أو لبعده عن الموضع الذي ضاع فيه، فلم يكن بد من مدة، فقدرت بسنة؛ لأنه يمر فيها الفصول الأربعة. ولأن الغالب ممن ضاع منه شيء أنه يتمكن من طلبه في سنة، فإذا لم يوجد له مالك.. فالظاهر أنه لا مالك له.
فإن قيل: فقد روي «عن أبي بن كعب: أنه قال: وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «عرفها حولًا" فعرفتها، ثم أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «عرفها حولًا"، ثم أتيته فقال: «عرفها حولًا" فأمره بتعريفها ثلاثة أحوال؟».
قلنا: عن ذلك أجوبة:
أحدها: أن ابن المنذر قال: قد ثبت الإجماع بخلاف هذا الحديث، فيستدل بالإجماع على نسخه.
وأيضًا فإن له ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه عرفها حولًا، وقصر في تعريفها، فأمره أن يعيد التعريف فعرفها حولًا آخر وقصر في التعريف، فأمره أن يأتي بالتعريف الكامل حولًا.
والتأويل الثاني: أنه ذكر ذلك لفظًا، فقال: «عرفها حولًا»، «عرفها حولًا»، «عرفها حولًا»، لا أنه كرر الأحوال.
والثالث: أنه أمره بتعريفها حولًا، فأتاه في بعض الحول، فقال: «عرفها حولًا» أي: تمم الحول، ثم أتاه قبل إتمامه أيضًا، فقال: «عرفها حولًا» أي: تمم الحول.
إذا ثبت هذا: فابتداء السنة من حين التعريف لا من حين الالتقاط. فإن عرفها سنة متوالية.. فلا كلام، وإن عرفها شهرًا، ثم قطع التعريف مدة، ثم عرفها، ثم قطع
التعريف، ثم عرفها إلى أن استوفى مدة التعريف متفرقة، ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنه يقع عليها اسم سنة التعريف، فهو كما لو نذر صوم سنة وصامها سنة متفرقة.. أجزأه.
والثاني: لا تجزئه حتى يأتي بها متوالية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفها حولًا» وظاهره التوالي، ولأن المقصود بالتعريف وصول الخبر إلى المالك، وذلك لا يحصل إلا بالتوالي، كما لو حلف أن لا يكلم زيدًا سنة.
وأما وقت التعريف: فهو بالنهار دون الليل، ودون أوقات الخلوة؛ لأن العادة جرت بتعريف اللقطة وطلبها بالنهار دون الليل، ويستحب أن يكثر منه في أدبار الصلوات؛ لأن الناس يجتمعون لها، فيتصل الخبر بمالكها.
وأما قدر التعريف: فليس عليه أن يعرف من أول النهار إلى آخره؛ لأن في ذلك مشقة عليه، وينقطع عن دينه ودنياه.
قال الصيمري: بل يعرفها في اليوم مرة أو مرتين؛ لأن المقصود يحصل بذلك.
إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (ويكون أكثر تعريفها في الجمعة التي أصابها فيها).
وقال في موضع آخر: (يكون أكثر تعريفه في البقعة التي أصابها فيها).
ونقل الربيع: (ويكون أكثر تعريفه في الجماعات التي أصابها فيها).
فقال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 358] إذا وجدها في الجامع.. عرفها كل جمعة؛ لأن الغالب أن مالكها يعود كل جمعة.
وقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: الصحيح ما نقله الربيع من هذا، حيث قال: (في الجماعات) وهو موافق لقوله: (في البقعة التي أصابها فيها) وأنه يعرفها في الجماعات والبقعة التي وجدها فيها؛ لأن ذلك أبلغ في تعريفها.
وأما رواية المزني في الجمعة التي أصابها فيها: فإنه يقتضي أنه يكثر تعريفها في الأسبوع الذي وجدها فيه. فإذا لم يجد صاحبها.. قل تعريفه، وليس بشيء.
وأما مكان التعريف: فإنه يعرفها على أبواب الجوامع، وأبواب مساجد الجماعات، وفي الأسواق، وإذا اجتمع الناس في المجالس في المحال؛ لأن القصد بالتعريف إعلام صاحبها بها، والتعريف في هذه المواضع أبلغ. ولا يعرفها داخل المسجد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيها الناشد غيرك الواجد، إنما بني المسجد لذكر الله والصلاة»
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد.. فليقل: لا ردها الله عليك". [و] "إنما بنيت المساجد للصلاة».
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء، وإنشاد الضوال في المساجد».
قال الصيمري: وقد كره قوم إنشاد الشعر في المساجد، وليس ذلك عندنا بمكروه.
وقد كان حسان بن ثابت ينشد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشعر في المسجد، وقد أنشده
كعب بن زهير قصيدتين في المسجد. ولكن لا يكثر منه في المسجد.
وأما كيفية التعريف: فهو أن يقول: وجدت شيئًا أو لقطة، أو يقول: من ضاع له شيء، أو من ضاع له ذهب أو دراهم، ولا يزيد عليه. فإن ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء، فهل يكون ضامنًا بذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصير ضامنًا بذلك؛ لأنه لا يجب عليه الدفع بمجرد الصفة.
والثاني: يكون ضامنًا؛ لأنه ربما حفظ ذلك رجل وحاكمه إلى حنبلي يوجب الدفع بالصفة.
وأما من يتولى التعريف: فإن الواجد يتولى التعريف بنفسه، وإن تطوع رجل بتعريفها.. جاز. وإن لم يجد من يتطوع عنه بالتعريف.. فعليه أن يستأجر من ماله من يعرفها؛ لأن هذا سبب للتملك، والتملك له، فكانت الأجرة عليه.
وإن دفعها الملتقط إلى القاضي ليعرفها القاضي عنه أو دفعها إلى أمين بأمر القاضي.. جاز. وإن دفعها إلى أمين ليعرفها عنه بغير أمر القاضي.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 359]:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنها أمانة في يده.. فلم يكن له إخراجها من يده بغير إذن المالك والقاضي من غير ضرورة، كالوديعة.
والثاني: له ذلك؛ لأن صاحب الشرع قد جعله وليا على هذه اللقطة، فصار كتصرف الأب في مال الابن.